الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله. هذه القصة من جنس القصص المشهورة التي يذكرها أهل العلم من المفسرين في تفاسيرهم عند الكلام على أخبار بني إسرائيل كالطبري والثعالبي وابن كثير وغيرهم وكذلك يذكرها المؤرخون في تواريخهم كابن الأثير وغيره. وقد رواها من الصحابة والتابعون جماعة كعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وكعب الأحبار ووهب من منبه وابن جريج وابن إسحاق ومحمد بن كعب القرضي تلقوا ذلك عن أهل الكتاب إما مشافهة أو عن طريق كتبهم وأكثر من روي عنه ذلك كعب الأحبار ووهب بن منبه ووقع في روايتهم مايستنكر وحفظ إنكار عمر وغيره من كبار الصحابة على بعض مروياتهم وقد تسامح أهل العلم في ذكر هذه القصص ولم يشددوا فيها ما دام أنها ليس فيها ما يستنكر وتسمى عند العلماء بالإسرائيليات.
وهذه القصص منها ما هو ثابت مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضرب يسير ومنها ما هو مرسل لم يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه على ثلاثة أقسام:
1- ما شهد الشرع بصدقه وموافقته للواقع فهذا نجزم بصدقه ونعتقد ثبوته وهو من الغيب الذي نؤمن به ونثاب على ذلك.
2- ما شهد الشرع بكذبه ومخالفته للواقع كالقصص التي تسيء لمقام الأنبياء وتفتري عليهم وتلحقهم بالرعاع والتي يكون فيها شيء من الشركيات والغلو في المخلوقين فهذا نجزم بكذبه ونعتقد عدم ثبوته وننكره وهو من دسائس الزنادقة والمنافقين.
3- ما لم يشهد له الشرع بصدق ولا كذب ولم يظهر فيه نوع مخالفة أو نكارة أو افتراء أو إساءة كذكر تفاصيل أحوال الأنبياء وأقوامهم ومعجزاتهم وعجائبهم والغالب أن يكون أصل القصة ثابت لكن يروى تفاصيل وزيادات وتفسيرات لهذه القصة. كتفاصيل قصة إخراج أبونا آدم عليه السلام وقصة موسى عليه السلام مع قومه وفرعون وقصة يوسف عليه السلام مع إخوته وأهل مصر وقصة يونس عليه السلام في الحوت وغيرهم من الأنبياء كإبراهيم ونوح عليهم السلام وكذلك ما روي عن بني إسرائيل عن الملوك والصالحين كذي القرنين والخضر وغيرهم فهذه الروايات والقصص تذكر تفاصيل دقيقة جدا وأحوال خاصة لم ترد في الشرع لكن لا بأس في روايتها ولا حرج في الاستئناس بها وحكايتها بدون أن نصدقها أو نكذب بها فلا نجزم بها بنفي ولا إثبات ويكون حكمها حكم سائر القصص والأخبار التي تروى عن الأمم والشعوب الغابرة في إباحة روايتها والإخبار بها دون الاعتماد عليها في استنباط الأحكام الشرعية والعقائد الدينية ويؤخذ منها العبرة والعظة والتفكر في آلاء الله وقدرته. وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). رواه البخاري. وفي صحيح مسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). وعند أحمد من حديث أبي هريرة: (قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَحَدَّثُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ : نَعَمْ ، تَحَدَّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَحَدَّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبَ مِنْهُ). وقال الشافعي: (معنى حديث النبي صلى الله عليه و سلم حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج أي لا بأس أن تحدثوا عنهم بما سمعتم وإن استحال أن يكون في هذه الأمة مثل ما روي أن ثيابهم تطول والنار التي تنزل من السماء فتأكل القربان ليس أن يحدث عنهم بالكذب ومالا يروى). وقال مالك: (المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا).
ولا مدخل للعقل في إنكارها لأن أحوالهم كانت عجيبة وتكثر فيهم الآيات الكونية والمعجزات الحسية كما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم.
أما القرآن فقد سلك منهجا خاصا في حكاية قصص بني إسرائيل وهو الإقتصار على ذكر ما يكون له أثر في الحكم وبيان الحدث الذي تؤخذ منه العبرة والعضة ولا يتطرق غالبا إلى ذكر تفاصيل الأشياء ودقائقها التي لا طائل من ورائها ولا تتعلق بها كبير فائدة ولذلك لا ينبغي للمفسر أن يعتمد على القصص الإسرائلية في تفسير كلام رب البرية ولا يليق به أن يحمل كلام القرآن ما لا يحتمل من المعاني بناء على الأخبار وقد عاب المحققون من العلماء هذا المسلك وأنكروه بالجملة أما مجرد حكايتها وروايتها فالأمر سهل في هذا. قال ابن سعدي: (واعلم أن كثيراً من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشوا تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونَزَّلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيراً لكتاب الله، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: "حَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج". والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجهٍ تكون مفردة غير مقرونة ولا مُنَزَّلَةٍ على كتاب الله فإنه لا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعاً إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُصدّقوا أهل الكتاب ولا تُكَذّبوهم". فإذا كان مرتبتها أن تكون مشكوكاً فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به، والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها معاني لكتاب الله مقطوعاً بها. ولا يستريب بهذا أحد. لكن بسبب الغفلة عن هذا، حصل ما حصل. والله الموفق).
والحاصل أنه يجوز حكاية قصص بني إسرائيل وأخذ العبرة منها والتفكر في أحوالهم وعجائبهم بخمسة شروط:
1- أن لا يرد دليل صحيح خاص على ردها وإنكارها أو تكون معارضة للأخبار الصحيحة.
2- أن لا يكون فيها ما يستنكر من العقائد الفاسدة والإسائة للأنبياء.
3- أن لا يعتمد عليها اعتمادا مستقلا في تفسير القرآن وتأويله.
4- أن لا يبالغ في الاشتغال بها بحيث تشغل عن سماع القرآن والسنة.
5- أن لا يستنبط منها العقائد والأحكام أو يعارض بها ماثبت في الشرع.
هذا وقد استعمل جماعة من السلف القصص الإسرائيلية في المواعظ والتذكير كما فعل الزهاد في الصدر الأول ومن تبعهم من العلماء المؤلفين في الوعظ وقصص التائبين كابن قدامة وابن الجوزي وابن القيم وغيرهم.
وهذا هو المسلك الوسط في هذا الباب الموافق للأدلة الصحيحة ومنهج العلماء الراسخين خلافا لمن شدد ومنع من ذلك بالكلية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.