الدعوة بالأغنيةولم يكنالكحلاوي يؤمن بفكرة الفن للفن، بل كان يرى أن الفن لا بد أن يساير الأحداثوالمواقف الإنسانية؛ لذا فحين بدأت حرب 48 وهجرة اليهود وأحدقت المخاطر بفلسطين كانأول من نادى بالوحدة وأنشد العديد من الأغاني الوطنية باللهجة العربية البدوية، ومنهذه الأغاني "على المجد هيا يا رجال"، "وين يا عرب"، "خلي السيف يجول" و"كريم جواد" و"يا أمة الإسلام"، وغيرها... فنراه يشحذ الهمم قائلاً:
يا أمة التوحيد منكل فج بعيدهبوا بعزم شديد ورجعوا اللي كانيا أمة العربان...
وفي انتصارات أكتوبر 1973 غنى:
على نورك قمنا وعدينا يا رسول اللهمن بدري كتايب حوالينا كبروا لله...
وهنا نلاحظ أنه يستدعي روحسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى في أغانيه الوطنية.
صوتالعرب تفتتح وتغلق بألحانهوكما اقتحم الكحلاوي مجال الغناء والتمثيلوكرة القدم فلم يكن غريبًا أن يقتحم الإذاعة التي دخلها مع بدايتها في 1934، وكاناللحن الافتتاحي لإذاعة صوت العرب هو لحن محمد الكحلاوي وكذلك اللحن الختامي وهولحن فيلم "أحكام العرب"، كما كانت تذاع أغنيته "يا أمة الإسلام يا أمة القرآن" علىمدار اليوم، وكان المطرب الوحيد الذي خصصت له الإذاعة نصف ساعة يوميًّا.
وكان هذا الفنان الشامل ودودًا معطاء محبًّا للخير يهتم بمن هم خلفالكواليس فاهتم بالموسيقيين وأولاهم اعتناء خاصًّا، فكان يحرص على مشاركتهم أفراحهموأتراحهم وهذا دعاهم إلى اختياره نقيبًا للموسيقيين في عام 1945، ولكنه تخلى بعدذلك عن المنصب للموسيقار محمد عبد الوهاب، وقضى بذلك على المشاكل والصراعات بداخلالنقابة في ذلك الوقت.
ومما يذكر في هذا الصدد أن الكحلاوي كان رائدًا منرواد التلحين في عصره، فقد لحن لكل مطربي عصره، كما لحّن جميع ألحانه ما عدا لحنًاواحدًا لحنه له صديقه الشيخ زكريا أحمد، والطريف أنه أعاد تلحينه لنفسه مرة أخرىوهو لحن (خلي السيف يجول)!
وقد حصل الكحلاوي على شيء من التكريم -الذي لايتناسب مع إبداعه وإضافاته للفن- فقد حصل على جائزة التمثيل عن دوره في فيلم "الزلةالكبرى"، وجائزة الملك محمد الخامس، وحصل في عام 1967 على وسام العلوم والفنون منالطبقة الأولى، ثم حصل على جائزة الدولة التقديرية، هذا بالإضافة إلى العديد منالأوسمة والنياشين، ويسعى ابنه الفنان أحمد الكحلاوي حاليًا لإنشاء متحف لأبيه يضمأوسمته وملابسه وصوره النادرة التي سيضمها المتحف الذي سيقام بجوار مسجده بمنطقةالإمام.
حب التراث الإسلامي وراثةوكماتميز في عمله الفني فقد نجح أيضًا في الجانب الاجتماعي من حياته فاستطاع أن يزرع فيأبنائه حب الإسلام والتراث الإسلامي العريق، فتميزوا في مجالات متنوعة ولكنها تشتركفي صلتها بالإسلام وتراثه: فابنته الدكتورة عبلة داعية إسلامية وعميدة كليةالدراسات الإسلامية والعربية، والدكتورة عليا أستاذة الحقوق والشريعة الإسلامية،والأستاذة عزة متخصصة في الديكور الإسلامي، والدكتور محمد الكحلاوي أستاذ في الآثارالإسلامية وأمين عام الأثريين العرب، والفنان أحمد الكحلاوى الذي ورث عن والدهالصوت الجميل ورسالته الفنية فهو ملحن فرقة للإنشاد الديني.
كراماته وتجلياته الصوفيةوقد انتابت الكحلاوي روح صوفيةجارفة وهو الذي أدى فريضة الحج 40 مرة متواصلة فلم يقطع الحج أربعين عامًا متواصلة،فكان يعتكف على جبل القصير على البحر الأحمر اعتقادًا منه أن سيدي أبي الحسنالشاذلي القطب الصوفي يقرأ معه القرآن، ثم يعود مرة أخرى لمقامه!! وكان يجاور سيديالإمام الشافعي وسيدي عمر بن الفارض وسيدي عقبة بن نافع وغيرهم من أولياء اللهالصالحين.
كما كان له تجلياته النابعة عن إلهام صوفي ونزعة تغلبه في التقربإلى الله تعالى وأوليائه الصالحين، فقد هجر عمارته المطلة على النيل في حي الزمالكالراقي وبنى مسجدًا يحمل اسمه وسط مدافن الإمام الشافعي وبنى فوقه استراحة وسكنهاوبنى كذلك مدفنه فيه!.
وبدأت خلواته في جامعه ثم امتدت معه في أوقات قضائهللعمرة التي أدى مناسكها عشرات المرات، فكان يقضي وقته عند قبر سيدنا حمزة وكذلك فيخلوة عند جبل أحد وكان يتخذ مكانًا بالقرب من قبر الرسول صلى الله عليه وسلم يختليفيه، وكان يتلمس خطى سيدنا محمد في الأماكن التي سار فيها عليه الصلاة والسلام بينمكة والمدينة.
وفي آخر أيامه كان يقضي معظم وقته في الاستراحة التي تعلوالجامع عابدًا تاليًا لكتاب الله، كما كان ينفق ماله في سبيل الله فكان يقيم مائدةإفطار طوال شهر رمضان المعظم، هذا بالإضافة إلى تموين شهري لمعظم الأسر التي تسكنمنطقة المدافن وكذلك معونات نقدية.
وعندما توجهت إلى المنطقة التي يوجد بهاالجامع اكتشفت أنه من العلامات المميزة لهذا المكان -العامر بالرغم من وجوده وسطالمدافن- فالمنطقة مشهورة بجامع الكحلاوي القريب من محطة الأتوبيس -التي تحمل هيالأخرى اسم الكحلاوي- والجامع صغير الحجم بسيط الإنشاء ليس به تكلف في العمارة ولافي النقوش، وأبرز ما فيه آية الإخلاص التي كتبت بطريقة فنية جميلة، وفي مواجهة بابالجامع يوجد باب آخر يوصل إلى الاستراحة وعلى يمينه يستقر مدفنه في هذا المكان الذيارتبط به في حياته.
وعندما صعدت إلى سطحه وجدته قد امتلأ بالملابس بشكليستدعي في الذاكرة مصانع الملابس، وبعدما تبينت الأمر اتضح أن هذه الملابس هيالكسوة المدرسية للأطفال وساكني القبور في منطقة الإمام، كما يضم المكان مدرسةلحفظة القرآن ومستوصفا طبيا وسبيلا.
ظل مداح الرسول طول حياته ينفق مالهابتغاء مرضات الله ويسعى وراء موالد الأولياء الصالحين ويتقرب من المشايخ، ويخرج فيسبيل الله حتى توفاه الله في الخامس من أكتوبر 1982، وهو في حياته لم يندم علىشيء سوى الفترة التي قضاها في عدم طاعة الله وكان يطلق عليها "جاهلية محمدالكحلاوي"!!!.